الأحد، 20 نوفمبر 2011

الفناء الفكري والموت الحراري!


د. خضر محمد الشيباني

من اللطائف في علم (الفيزياء) النظر إلى قوانينه ومفاهيمه ونتائجه، ثم مقارنة تلك القوانين والمفاهيم والنتائج مع ما يناظرها في الاطار العام من حياة البشر وتفاعلاتهم، ومجريات امورهم، وسيرورات احوالهم. ان لمثل تلك المقارنات، الشاحذة للذهن والمطورة للقدرات، فوائد عديدة، فاضافة إلى ما تقدمه من مادة فكرية عميقة جديرة بالتأمل والمتابعة والتحليل، فإنها - ايضا - تعمق الادراك بوحدة هذا الكون، وتجانس عناصره، وتناغم قوانينه، فيتجذر شعور الانسان بتلاحمه العضوي مع مكونات هذا الكون، وتزدهر لديه حاسة الاندماج والارتباط مع نبض الكون وسننه، ناهيك عن تلك الدفقات الايمانية الرائعة التي تدفع بها تلك المقارنات والتأملات إلى عقل الانسان وقلبه وهو يقف في خشوع امام وحدانية الخالق الذي صنع كل شيء واتقنه، وابدع تلك الوحدة الكونية المتلاحمة. ولا شك ان كل تلك التأملات الذهنية والوقفات الفكرية هي من عمليات (التدبر والتفكر) التي امرنا بها الخالق عز وجل، وهي توطد في الانسان ذلك الاحساس الفطري الحق بأنه ليس ذلك الكائن الذي جاء صدفة ليعيش عبثاً كما يزعم الملاحدة، ولكنه نتاج ارادة الهية خلاقة اتقنت كل شيء واحسنت خلقه، فينضوي الفكر والعلم تحت لواء يقود -بالضرورة - إلى الايمان بوحدانية الخالق المبدع لكل ذلك الاتقان والتجانس والتوافق والتلاحم بين عناصر الكون كلها، ومكوناته قاطبة. من المفاهيم الثابتة في (الفيزياء) مفهوم (الموت الحراري للكون)، فالحياة تعتمد في سيروراتها ومجرياتها على الطاقة الناتجة من سريان الحرارة بين الاجسام، وهذه الطاقة السارية بين الاجسام يستفاد منها في تحولات الطاقة المختلفة، وتطبيقاتها المتعددة لتجعل الحياة ممكنة، والتفاعلات الحيوية مستمرة. ولكن.. هناك مأزق في نهاية المطاف، فالطاقة الحرارية تسري من الاجسام الحارة إلى الاجسام الباردة، مما يؤدي بالضرورة إلى انخفاض درجة حرارة الاجسام الحارة وارتفاع درجة حرارة الاجسام الباردة، وهذا يعني انه مع مرور الزمن سوف تتساوى درجة حرارة جميع الاجسام في الكون، ويتوقف سريان الحرارة، وبالتالي تتوقف كل العمليات الحيوية اللازمة للحياة، مما يقود إلى (الموت الحراري) للكون. ان من لطف الله عز وجل بمخلوقاته ان كمية الحرارة المتوفرة في الكون كمية هائلة تقوم الشمس والنجوم بتزويدها، وشمسنا الموجودة في مجموعتنا (المحلية) هي التي تعتمد عليها الحياة على الارض، وهي كفيلة بتزويدنا بكميات ضخمة من الحرارة لمليارات السنوات القادمة حتى يقضي الله امراً كان مفعولاً. ان (الموت الحراري) للكون هو أحد الاحتمالات العلمية لنهاية الكون، ولكل اجل كتاب، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وصدق الحق عز وجل:(الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر، كل يجري لاجل مسمى، يدبر الأمر، يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون) (الرعد:2). ان مفهوم (الموت الحراري) للكون هو من المفاهيم الفيزيائية الثابتة التي تحدد مسار الاحداث في الكون ومن اهم نتائجها انها تقرر ان للكون نهاية، مما يؤدي بداهة في الوقت نفسه إلى ان للكون بداية، وفي هذا دحض علمي قاطع لدعاوى الملاحدة والقائلين بأزلية الكون وقدمه، وهكذا تتهاوى مزاعم فئة (الأزليين) من الفلاسفة تحت وقع معطيات علمية ثابتة، وتسقط اوراق التوت عن عورات الملاحدة. اذن (الموت الحراري) هو فناء للحياة، فلا بد من اختلاف درجات الحرارة من موقع إلى موقع حتى تستمر التفاعلات الحيوية والانشطة الحياتية، ولو تساوت درجات الحرارة على وجه البسيطة، وبلغنا مرحلة (التعادل الحراري)، لتوقفت الحياة، وانتهت المرحلة الدنيوية للبشر. ذلك (الحال الفيزيائي) جدير منا ببعض التفكر في تبعاته في مختلف مناحي الحياة، وقمين بنا ان نتأمل مقتضياته في الاطار العام لتفاعلات البشر، فلو تساوت الارزاق - على سبيل المثال -، وتماثل الناس في الجاه والنفوذ، لاستغنى كل منهم عن الآخر، ولتوقف التفاعل بينهم، ولانقرضت عملية تبادل المصالح والمنافع، ولما اتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، ولبغوا في الأرض، ولقاد كل ذلك - حتماً - إلى الاندثار والفناء. وقس على ذلك - رعاك الله - صفات الناس وهيئاتهم وقاماتهم فهي الاخرى يجب ان تختلف وتتفاوت ليكون للحياة معنى، ويصبح للوجود طعم، فلو تماثل الناس وتشابهوا في كل ذاك، لانعدمت القدرة على التمييز بينهم، ولخمدت حرارة العلاقات الشخصية، ولنتج عن كل ذلك - بالضرورة - فناء الفردية المميزة، واندثار الاحاسيس والعواطف، وتعطل العلاقات الاجتماعية والتفاعلات العائلية. اما القضية التي تهمنا هنا فهي حال (الفكر البشري) اذ لا مفر من الاختلاف فيه، والصراع حوله، والتلاقحات المتنوعة في رحابه، لكي تستمر حياة البشر مفعمة بالاحداث والتغيرات والابداعات، فلو اجمع البشر على فكر واحد لكان ذلك ايذاناً بركود الاطر الحياتية وجمود مقوماتها وانهيار اسسها، وبالتالي تتحقق شروط (الفناء الفكري). إذن لكي تستمر الحياة، وتتوالى حلقاتها، وتتعمق أسسها، فإنه لا بد للفكر أن يسري بين معط ومتلق، وبين أخذ ورد وفي بوتقة الطرد والجذب، وكان لا بد أن تلتقي الحجة بالحجة، وان يتصارع البرهان مع البرهان، وان تستمر عملية (الحوار والاختلاف) بأشكال متنوعة، وفي أطر متباينة بين البشر إلى ان تقوم الساعة. لو لم يكن (الفكر البشري) في حال من التنوع والاختلاف والتغير لانهارت معطيات حياة البشر، ولهوت في جرف سحيق من حالة (الفناء الفكري)، وهو مما لا تحتمله الطبيعة البشرية، ولا تقوى على الصمود امام خوائه وجدبه، وصدق الحق عز وجل:(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين). (البقرة:251). وهكذا نجد ان قضية (الحوار والاختلاف) قضية جوهرية في الحياة الفكرية المفعمة بالنشاط والابداع، وعندما تتعطل لغة الحوار فإن (الفناء الفكري) هو الحتمي لانه يعني تطابق وجهات النظر، وتماثل العقول، وتساوي الافهام وبالتالي توقف النشاط الحيوي والتبادلات التفاعلية التي اقرتها السنن الكونية، وتجلت في علم (الفيزياء) في (التبادلات الحرارية) التي لو توقفت لاصبح الكون بارداً هامداً.. وصعيقاً جامداً لا حياة فيه ولا عطاء، ولتحققت ظاهرة (الموت الحراري) للكون. اذن ليس صحيحاً ان (الحوار) في حد ذاته ليس هدفاً، وليس صحيحاً انه اذا لم تنتج عن (الحوار) مباشرة آثار تنفيذية وآليات تفعيلية، فإنه لا طائل من ورائه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق